رثاء طفولة..

1426 - هـ..

كأي طفلة بِعمر التّاسعة، أحبّت الحياة بكل مافيها..
لم ترى في الحياة أي بأس، كانت تبكي فقط إن لم تحصل على ما تُريد، فقد دلّلها أباها كثيرًا..
كانت في التّاسعة من العمر حين جبرتها الحياة على الفُقد..
كانت أصغر من أن تحمل هذا الكمّ الهائل والعميق من الحُزن والوحدة..
علّمتها تلك السنة أن ذلك الرجل القوي الذي دلّلها ووهبها من الحُب الكثير، يضعف، وقد يرحل في غمضة عين دون حولٍ منه.
تدهورت الحياة في عدّة ليالٍ فقط! ما عادت هي، اختلفت حتى والدتها..
فجأة دون مقدّمات
باتت تلك الطّفلة تحمل مسؤولية نفسها وأخيها الأصغر، فابتلعت كل أحزانها، احتملت تلك النظرات من الغرباء والأقربين بالتحديد..
فذهاب والدها لم يكن عاديّ..
كان مهوّلا
كانت صغيرة جدًا على رحيل أبيها
كانت صغيرة لتدرك عجز والدها
لكن كبيرة على البكاء والحزن..
اعتراها الصّمت من كل جانب
تقوقعت حول ذاتها..
ياه!
كم قست تلك الطفلة على نفسها
كم كانت وحيدة..
فلم يخبرها أحد بأن كل شيء سيكون على ما يُرام!
على النّقيض تمامًا كل من حولها ردّد: انتهت الحياة!
شعرت وكأنها تحلم، فكل صديقاتها كنّ يحظين بحياة طبيعيّة
كل شيء بات بلا معنى!
قبل عدّة أشهر.. كان أمامها!
تهمس لنفسها: أين هو؟
متى سيعود؟
"سيعود حتمًا سيعود" ظلّت تخبر نفسها حتى أصبحت في الحادية عشر من عمرها..
حاربت ضعفها بالتّفوق على صديقاتها
وضعت أسوارًا لا تنتهي حول قلبها
عانقت صورة والدها وقبّلتها كل ليلة قبل ان تغفى
أدركت بأنها ستحيا حياة مختلفة جدًا عمّن حولها..
فقد تعلّمت في ذاك الوقت كيف تُناجي الله عنه وعنها بكل ما آتاها الله من وهن..
شعرت بأن الله يهوّن عليها: كل هذا النّضج المبكّر سيجعلك أفضل
لا تقلقي..
سيعود.. حتمًا سيعود!
لم تملك من الأمل سوى ما كانت تهبه لنفسها..
لم تملك سوى الله..
 
وعاد..
بعد أن رحلت طفولتها إلى الأبد.
منذ تلك اللحظة -ورغم تكرّر الموقف حتى عندما أصبحت مُراهقة-
ما عاد يُخيفها الرّحيل، بل باتت ترتجيه أحيانًا
ما عادت الوعود بالبقاء مُغرية..
فالكل قد يرحل..
آمنت بأن الحُب لا علاقة له بالمسافة..
ورغم أنّه اليوم أمامها.. بكامل قوّاه
إلّا أن نفسها لم تعد يومًا..
في تلك اللّيالي أُصيبت بِداء الوعي المُبكّر!
وتخلّت يومًا بعد يوم عن كل ما كان يربطها بالسّذاجة
وافترقت فكريًّا عن كل من هم بِسنّها
فباتت اليوم واقعيّة حدّ اللّا شعور..
قويّة لحدّ مُخيف..
أعمق وأكثر حُزنًا من أن تُفهم..
 
 
1441 هـ..
 
شكرًا للرّحيل..
فهي اليوم في الرّابعة والعشرون من عمرها
وفي كل حين وآخر
تجدها ترثي طفولتها الرّاحلة
أغلى من رحل..
فتذهب لحيث دفنتها
حيث لا أحد يعلم سواها..
تغمض عيناها وتبكي
تارةً تلومها على رحيلها المبكّر وتارةً تشكرها
وأخيرًا تخبرها: "غفرت لك رحيلك"
وتمسح دموعها، وتبتسم
وتُناجي الله حُبًّا:
شكرًا
ففي كلّ سنة جديدة من عمري
يتضاعف تقديري لتلك النّدبة
وأعود مرّة اُخرى..
تلك الاُنثى الجميلة
التي تحمل من الحزن ما يساويه من الرّضا
وتملك من الصّبر ما يكفيها لتحيا وتحاول مرّة اُخرى
..
 
 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أربعة وستّون يومًا..

تأمُّل..